||حــــوار قالت .. وقلت||
للأديب محمد القصاص
الحوار .. في المجتمعات أيا كان مستوى هذا الحوار أو ذاك ، على المستوى الرسمي أو الشعبي ، فمن الضروري أن يبنى على أسس سليمة مدروسة مسبقا
فإذا كان من نحاوره رجلا .. يجب أن يكون صاحب فكر ، وإذا كان من نحاوره امرأة فيجب أن تكون ذات جمال مفرط إلى حد الجنون . المرأة يجب أن تحاور صاحب الفكر ، وبالمقابل الرجل المفكر يحاور المرأة ذات الجمال المفرط
بهذه الطريقة ينجح الحوار .. تصوروا معي حوارا بين دميميْـن غبييْـن لا جمال لهما ولا فكر . ماذا سيكون رد الفعل لدى الجمهور ؟ أترك الإجابة لكم
امرأة جميلة ورائعة ومثقفة .. قالت لي يوما وهذا حوار : أنت تكتب قصائدك وكل قصائدك حزينة .. وربما تكتبها كلما مررت بتجربة تراجيدية أو عصفة عاطفية ، قلت لها نعم .. أنا حينما أحزن أتحول إلى عالمي .. في دنيا أخرى ، فأكتب من وراء الإحساس أو بمعنى آخر من وراء الوعي
قالت لي : أنت متشائم ؟ . قلت : لو كنت متشائما ما كتبت حرفا واحدا . ولا عرفت للحزن طعما
قالت : وهل تأنس الحزن ؟ قلت نعم وهل بغير الحزن تُصقل النفوس؟ ، وهل يكتب الشعراء أجمل قصائدهم بغير هذا الإحساس الجميل؟
قالت : ماذا عن الفرح ؟.. ألا تحب أن تكون فرحا ؟ قلت لا . قالت : ولماذا : قلت : عند شعوري بالفرح .. أخشى مما هو قادم بعده .. وأعلم بأنها لحظات ربما تنقضي أو تتبدل بسرعة ، لكن حينما أشعر بالحزن أعلم بأن ثمة أملٌ قادم
قالت : ما رأيك بالمجتمع ؟ قلت: مسالمٌ لا حيلة له ولا حولْ ، قالت : أليس أنت جزءٌ من المجتمع ؟ قلت : أحاول أن لا أكون جزءا منه .. لأن لي عالمي الخاص ، والمجتمع الذي لا حول له ولا قوة ، له عالمه الخاص.
قالت : إذا لم تكن من المجتمع .. فهل تريد أن يكون المجتمع منك ؟ قلت : أتمنى ذلك . أنا أطبق نظرية ديكارت .. قالت : وما هي نظرية ديكارت ؟ قلت : يقول أنا أفكر .. إذن أنا موجود
قالت : تريد أن يذوب المجتمع فيك إذن ؟ قلت : إذا ما قرر المجتمع أن يذوب فيَّ ، عرفت أنه أصبح مثل ديكارت . ومن هنا أبدأ بالعمل ، أما إذا ذبت أنا في المجتمع أُصبح وإياه كما هو لا حول لنا ولا قوة
قالت : تقول أبدأ العمل ، يعني بمفردك ؟ قلت : لا .. أين ذهب المجتمع الذي ذاب في إذن؟
قالت : أتؤمن بالصداقة ؟ قلت وهل بغير الصداقة تدوم السعادة ؟ قالت : وهل لك أصدقاء ؟ قلت : معدودون على أصابع اليدين
قالت : أنت كاتب فذ ! قلت : متى ما ظننت بأنني بلغت تلك المنزلة في نظر الناس أدركت بأن السقوط قادم لا محالة ، والظن بمثل ذلك يؤدي إلى الغرور ، ومتى ما بلغ الإنسان مرحلة من الغرور ، كان فشله في الحياة مضمونا ومؤكدا
قالت : هل تختار أصدقاءك أم هم الذين يختارونك ؟ قلت : هم الذين يختارونني . قالت : ألا تختار أنت أصدقاءً ؟ قلت : لا .. أنا أترك الفرصة لهم ليختارونني ، فإن كنت جديرا بصداقة أحدهم أصبحت صديقا له ، وإلا فلا . قالت : ولما ذلك ؟ قلت إذا اختارني أحد لأكون صديقه ، فعليه أن يتحمل تبعات هذا الاختيار ، وعليه أن يلوم نفسه إذا أحس بأنه أساء الاختيار، وسأكون ساعتها ملزما بتحسين صورتي وأثبت له بأنه فعلا أحسن الاختيار وإنني جدير بصداقته . أما إذا ما اخترت أنا صديقا وأحسست بأني أسأت الاختيار .. ستكون بالنسبة لي كارثة .. إذ كيف أخسر صديقا كنت أنا الذي اخترته ؟
قالت : هل قال لك أحدهم يوما بأنك على قدر كبير من الثقافة والإطلاع .. وهل يسرك هذا القول ؟ قلت : للشق الأول نعم .. كثيرون من قالوا لي ذلك . وأما الشق الثاني فلا .. لأنني لم أبلغ من العلم مستوى طفل ما زال في حضن أمه يتعلم الأحرف الأولى من المناداة على أهم الأشياء لديه وهي - بابا ، ماما
قالت : تتحدث عن الغرب بأمثلة كثيرة ، وكأنك تؤمن بمبادئ الغرب ؟ قلت : الغرب بدون مبادئ ، والدلالة على ذلك ، ما يفعلونه في الدول الفقيرة ، من إذلال لشعوبها ، وتدمير لحضاراتها ، وتبديد لثرواتها ، وإثارة النزاعات على حدودها لتبقى دائما شعوب تبحث عن لقمة العيش ، وعن الاستقرار والهدوء ، لا يريدون شعوبا تنتفع من الأفكار
ومع ذلك فأنا أؤمن بالغرب كنظام ، فالغرب يحترم النظام ، والنظام كما تعلمين هو أساس الحياة ، فبدون نظام لا يمكن أن نتقدم أو نتحضر أبدا
قالت : هل تعطيني أمثلة .. ماذا تعني بالنظام الذي هو أساس الحياة ؟ قلت : دعيني أذكر ما يخطر على بالي بهذه اللحظة . فمثلا .. الكل يحترم التعليمات ، مثل .. وضع حزام الأمان .. المحافظة على السرعة المحددة .. الالتزام بالمسارات المرورية على الطرق ، احترام الإشارات الضوئية ، عدم الوقوف في الأماكن الضيقة التي تعيق حركة المرور، عدم إلقاء أي نوع من القمامة أو النفايات ، مهما بلغت من الصغر أو البساطة ، ولو كانت بمستوى عود كبريت أو عقب سيجارة أو منديل ورقي أو عبوة سواء زجاجية أومن الصفيح ، أو أي شيء على الإطلاق ، من نافذة السيارة ، بل تجمع كل القمامة في كيس بلاستيكي مناسب ، يحكم ربطه ، إلى أن يصلوا إلى أقرب مكان تتواجد به حاوية ، يلقى فيها ، ويحرصون على إلقاء كل شيء داخل الحاوية بانتباه وحرص شديد ، ومن المحال أن ترى أي قمامة هنا أو هناك
وأما في الشارع : فمن المحال أيضا أن تري إنسانا بالغا عاقلا ، أو طفلا صغيرا يتعمد إلقاء أي شيء مهما بلغ من الدقة والبساطة في الشارع العام ، فهم يعلمون بأن الشارع ملك للجميع ولا يجوز أبدا أن يعتدي أي فرد واحد على ملك الجميع
سأذكر لك قصة حدثت خلال وجودي هناك ، ابنة الرئيس الأمريكي بوش الابن ، أوقفها رجال الشرطة وهي تقود سيارتها على غير هدى ، ووجدوا أنها كانت قد شربت خمرا تجاوز النسبة المئوية ، والنسبة المئوية للشرب يجب أن لا تتجاوز نسبة 24% على مقياس الحانات عندهم . حرروا لها مخالفة ، والمخالفة هناك تختلف عن مخالفاتنا ، لأن المخالفة هناك ، يمكن أن تحرر بحق الرئيس الأمريكي نفسه بكل سهولة ، مع حفظ المقامات ، مثله مثل عامل الوطن ، في بلدنا ، وكما تعلمين فنحن لا نحترم عامل الوطن ، وهو الإنسان الذي يستحق منا كل الاحترام ، ولولاه لاجتاحت القمامة وزاراتنا ومؤسساتنا ودوائرنا وشوارعنا وكل شيء عندنا ، فعامل الوطن هنا غير عامل الوطن هناك . المهم .. تم تحرير المخالفة ، وأبلغها بأن الجلسة ستكون بتاريخ كذا .. وفي التوقيت كذا .. وفي المحكمة كذا .. وسيكون القاضي فلان .. ليس من أجل أن تذهب برشوة أو هدية جزلة إلى سعادة القاضي ، ولكن من أجل تسهيل مهمتها
ذهبت إلى الجلسة في الموعد المحدد ، ولم تغفل هذه المحاكمة قناة تلفزيونية هناك .. سألها القاضي إن كانت مذنبة .. اعترفت بأنها مذنبة بالطبع ، ولا يجوز لها ولو من باب الذوق أن تكذب رجل الأمن الذي حرر لها المخالفة ، وهذا لا يتوفر عندنا لأن الثقة مفقودة برجل الأمن وبالمواطن على حد سواء . أصدر القاضي حكمه على الملأ .. بحكم وجود قناة تلفزيونية مهمتها رصد محاكمة ابنة الرئيس ، قال لها ، أنا أعلم بأنك ابنة السيد الرئيس ، وأعلم بأنك غنية يمكن أن تدفعي ثمن المخالفة نقدا .. ولن يكون هذا ثقيلا عليك .. فلذلك ، فلن أحكم عليك بدفع الغرامة المالية ، ولن يكون الحكم بالسجن احتراما للسيد الرئيس ، لكن الحكم عليك رأيت أن لا يكون لا هذا ولا ذاك ، حكمت عليك بأسبوعين كاملين ، بساعات دوام كاملة ، تعملين خلالها مع عمال الوطن في تنظيف شوارع المدينة ، قبلت الحكم بكل ارتياح ، ولم تغفل نفس القناة التلفزيونية من متابعة الموضوع ، وفي اليوم التالي على ما أذكر عرضت علينا صورة ابنة الرئيس وهي تجوب شارعا من شوارع المدينة بلباسها البرتقالي ، ومكنستها ذات العصا الطويلة ، بحيث تتناسب مع طول ابنة الرئيس ، كانت تكنس الشارع بكل تواضع ، وهي تضحك وتبتسم للمارة
وأما نحن .. فانظري إلى شوارعنا .. في أي مكان .. وانظري إلى شبابنا واستهتارهم في قيادة السيارات ، واستهتارهم بحرمة الشارع وبمشاعر الناس ، نجدهم يسيرون بسرعات عالية في الأماكن المزدحمة وبالقرب من مدارس البنات ، ويقفون في أضيق الأماكن مغلقين الشارع كاملا بضعا من الزمن يسردون حكايات وقصص وغراميات ربما ، والسائقين الآخرين وراءهم يطلقون أبواق سياراتهم بشكل مزعج للغاية ، ومع ذلك يبدوا وكإن الأمر لا يعنيهم أبدا
وأما عن الأسعار وطريقة البيع في المحال التجارية : فهناك كل شيء منظم ، والأسعار موجودة على كل سلعة ، وليس هناك أي فرصة للاستفسار عن سعر أي شيء . والويل كل الويل والثبور للمؤسسة إذا وجد الزبون عبوة منتهية الصلاحية في المحل التجاري ، فالزبائن هناك أول ما يتحققون منه هو تاريخ الإنتاج وتاريخ الانتهاء
وكذلك هناك لا يمكن أن تترك الزجاجات أو العبوات تحت أشعة الشمس ولو لدقيقة واحدة ، بينما هنا نلاحظ أن زجاجات الماء الصحي ، وزجاجات المشروبات الخفيفة ، وعبوات بلاستيكية ، صاروا يضعون بها العصائر والمشروبات في رمضان ، مثل التمر الهندي ، والعرق سوس في العراء وتحت أشعة الشمس المباشرة ، وهذا شيء ليس صحي أبدا ، وقد حذرت من هذا الخطأ ، ولكن لا حياة لمن تنادي
هناك .. من المستحيل أن تجد مأكولات مكشوفة مثل الحلويات والساندويتشات ، كما عندنا هنا في مجمع عجلون ، في غياب بلديتنا الموقرة غيابا تاما ، وفي مجمع اربد مثلا ، تجدين الهش والنش في المجمع الجنوبي ، وتيارات من الهواء تحمل كل أشكال القاذورات وتذهب بها على شكل حلقات دائرية (زوابع) ولا تميز بأن هناك أكل مكشوف ، أو ساندويتشات من كبدة الدجاج ذات الروائح التي تزكم الأنوف أو الفلافل المصنوعة من خليط لا تعرفين أوله من آخره ، والمستغرب بالأمر بأن الكثير يأكل ولا يأبه أبدا بأي نداء تحذيري من شأنه توعية المواطن بمخاطر هذه المسائل ، والبلدية والرقابة الصحية كما أسلفت سواء هنا أو هناك ، كانوا قد احتصلوا على إجازة دائمة ، والرواتب بطبيعة الحال إن لم يأتوا إليها فسوف تأتي إليهم في عقر دارهم ، وهم أصلا مع الحكومة التي يئست من المناداة بتحديد النسل ، والناس ما زالت تتباهى بأن يكون لدى العائلة الواحدة عشرين أو ثلاثين وانشاء الله أربعين ، وفي هذا الخضم من الإهمال ، (خلي الدرعا ترعى) كما يقول المثل البسيط
قالت : أراك تتدخل في كل شيء . قلت .. وهل هناك إنسان يرى كل هذه الأخطاء لا يتدخل في سبيل الحق ، ومن أجل مصلحة المواطن إلا معدوم الضمير؟
قالت أنت .. وكأنك تنصب من نفسك مسئولا عن كل شيء ، قلت : المسئولية يجب أن يضطلع بها الجميع ، وحينما أرى أي شيء خطأ ، فعلي أن أحتج وبكل قوة ، قلتُ لك إن لديَّ ضميرٌ لم يمتْ بعدُ ، وإذا افتقدتني يوما ، فاسألي عني .. فربما أكون قد خلدت إلى الموت . وهكذا ودعتني بعد أن قطعت أنفاسي بالأسئلة ،والحمد لله أنها وعدت بأن لا تعود لمحاورتي مرة أخرى
فإذا كان من نحاوره رجلا .. يجب أن يكون صاحب فكر ، وإذا كان من نحاوره امرأة فيجب أن تكون ذات جمال مفرط إلى حد الجنون . المرأة يجب أن تحاور صاحب الفكر ، وبالمقابل الرجل المفكر يحاور المرأة ذات الجمال المفرط
بهذه الطريقة ينجح الحوار .. تصوروا معي حوارا بين دميميْـن غبييْـن لا جمال لهما ولا فكر . ماذا سيكون رد الفعل لدى الجمهور ؟ أترك الإجابة لكم
امرأة جميلة ورائعة ومثقفة .. قالت لي يوما وهذا حوار : أنت تكتب قصائدك وكل قصائدك حزينة .. وربما تكتبها كلما مررت بتجربة تراجيدية أو عصفة عاطفية ، قلت لها نعم .. أنا حينما أحزن أتحول إلى عالمي .. في دنيا أخرى ، فأكتب من وراء الإحساس أو بمعنى آخر من وراء الوعي
قالت لي : أنت متشائم ؟ . قلت : لو كنت متشائما ما كتبت حرفا واحدا . ولا عرفت للحزن طعما
قالت : وهل تأنس الحزن ؟ قلت نعم وهل بغير الحزن تُصقل النفوس؟ ، وهل يكتب الشعراء أجمل قصائدهم بغير هذا الإحساس الجميل؟
قالت : ماذا عن الفرح ؟.. ألا تحب أن تكون فرحا ؟ قلت لا . قالت : ولماذا : قلت : عند شعوري بالفرح .. أخشى مما هو قادم بعده .. وأعلم بأنها لحظات ربما تنقضي أو تتبدل بسرعة ، لكن حينما أشعر بالحزن أعلم بأن ثمة أملٌ قادم
قالت : ما رأيك بالمجتمع ؟ قلت: مسالمٌ لا حيلة له ولا حولْ ، قالت : أليس أنت جزءٌ من المجتمع ؟ قلت : أحاول أن لا أكون جزءا منه .. لأن لي عالمي الخاص ، والمجتمع الذي لا حول له ولا قوة ، له عالمه الخاص.
قالت : إذا لم تكن من المجتمع .. فهل تريد أن يكون المجتمع منك ؟ قلت : أتمنى ذلك . أنا أطبق نظرية ديكارت .. قالت : وما هي نظرية ديكارت ؟ قلت : يقول أنا أفكر .. إذن أنا موجود
قالت : تريد أن يذوب المجتمع فيك إذن ؟ قلت : إذا ما قرر المجتمع أن يذوب فيَّ ، عرفت أنه أصبح مثل ديكارت . ومن هنا أبدأ بالعمل ، أما إذا ذبت أنا في المجتمع أُصبح وإياه كما هو لا حول لنا ولا قوة
قالت : تقول أبدأ العمل ، يعني بمفردك ؟ قلت : لا .. أين ذهب المجتمع الذي ذاب في إذن؟
قالت : أتؤمن بالصداقة ؟ قلت وهل بغير الصداقة تدوم السعادة ؟ قالت : وهل لك أصدقاء ؟ قلت : معدودون على أصابع اليدين
قالت : أنت كاتب فذ ! قلت : متى ما ظننت بأنني بلغت تلك المنزلة في نظر الناس أدركت بأن السقوط قادم لا محالة ، والظن بمثل ذلك يؤدي إلى الغرور ، ومتى ما بلغ الإنسان مرحلة من الغرور ، كان فشله في الحياة مضمونا ومؤكدا
قالت : هل تختار أصدقاءك أم هم الذين يختارونك ؟ قلت : هم الذين يختارونني . قالت : ألا تختار أنت أصدقاءً ؟ قلت : لا .. أنا أترك الفرصة لهم ليختارونني ، فإن كنت جديرا بصداقة أحدهم أصبحت صديقا له ، وإلا فلا . قالت : ولما ذلك ؟ قلت إذا اختارني أحد لأكون صديقه ، فعليه أن يتحمل تبعات هذا الاختيار ، وعليه أن يلوم نفسه إذا أحس بأنه أساء الاختيار، وسأكون ساعتها ملزما بتحسين صورتي وأثبت له بأنه فعلا أحسن الاختيار وإنني جدير بصداقته . أما إذا ما اخترت أنا صديقا وأحسست بأني أسأت الاختيار .. ستكون بالنسبة لي كارثة .. إذ كيف أخسر صديقا كنت أنا الذي اخترته ؟
قالت : هل قال لك أحدهم يوما بأنك على قدر كبير من الثقافة والإطلاع .. وهل يسرك هذا القول ؟ قلت : للشق الأول نعم .. كثيرون من قالوا لي ذلك . وأما الشق الثاني فلا .. لأنني لم أبلغ من العلم مستوى طفل ما زال في حضن أمه يتعلم الأحرف الأولى من المناداة على أهم الأشياء لديه وهي - بابا ، ماما
قالت : تتحدث عن الغرب بأمثلة كثيرة ، وكأنك تؤمن بمبادئ الغرب ؟ قلت : الغرب بدون مبادئ ، والدلالة على ذلك ، ما يفعلونه في الدول الفقيرة ، من إذلال لشعوبها ، وتدمير لحضاراتها ، وتبديد لثرواتها ، وإثارة النزاعات على حدودها لتبقى دائما شعوب تبحث عن لقمة العيش ، وعن الاستقرار والهدوء ، لا يريدون شعوبا تنتفع من الأفكار
ومع ذلك فأنا أؤمن بالغرب كنظام ، فالغرب يحترم النظام ، والنظام كما تعلمين هو أساس الحياة ، فبدون نظام لا يمكن أن نتقدم أو نتحضر أبدا
قالت : هل تعطيني أمثلة .. ماذا تعني بالنظام الذي هو أساس الحياة ؟ قلت : دعيني أذكر ما يخطر على بالي بهذه اللحظة . فمثلا .. الكل يحترم التعليمات ، مثل .. وضع حزام الأمان .. المحافظة على السرعة المحددة .. الالتزام بالمسارات المرورية على الطرق ، احترام الإشارات الضوئية ، عدم الوقوف في الأماكن الضيقة التي تعيق حركة المرور، عدم إلقاء أي نوع من القمامة أو النفايات ، مهما بلغت من الصغر أو البساطة ، ولو كانت بمستوى عود كبريت أو عقب سيجارة أو منديل ورقي أو عبوة سواء زجاجية أومن الصفيح ، أو أي شيء على الإطلاق ، من نافذة السيارة ، بل تجمع كل القمامة في كيس بلاستيكي مناسب ، يحكم ربطه ، إلى أن يصلوا إلى أقرب مكان تتواجد به حاوية ، يلقى فيها ، ويحرصون على إلقاء كل شيء داخل الحاوية بانتباه وحرص شديد ، ومن المحال أن ترى أي قمامة هنا أو هناك
وأما في الشارع : فمن المحال أيضا أن تري إنسانا بالغا عاقلا ، أو طفلا صغيرا يتعمد إلقاء أي شيء مهما بلغ من الدقة والبساطة في الشارع العام ، فهم يعلمون بأن الشارع ملك للجميع ولا يجوز أبدا أن يعتدي أي فرد واحد على ملك الجميع
سأذكر لك قصة حدثت خلال وجودي هناك ، ابنة الرئيس الأمريكي بوش الابن ، أوقفها رجال الشرطة وهي تقود سيارتها على غير هدى ، ووجدوا أنها كانت قد شربت خمرا تجاوز النسبة المئوية ، والنسبة المئوية للشرب يجب أن لا تتجاوز نسبة 24% على مقياس الحانات عندهم . حرروا لها مخالفة ، والمخالفة هناك تختلف عن مخالفاتنا ، لأن المخالفة هناك ، يمكن أن تحرر بحق الرئيس الأمريكي نفسه بكل سهولة ، مع حفظ المقامات ، مثله مثل عامل الوطن ، في بلدنا ، وكما تعلمين فنحن لا نحترم عامل الوطن ، وهو الإنسان الذي يستحق منا كل الاحترام ، ولولاه لاجتاحت القمامة وزاراتنا ومؤسساتنا ودوائرنا وشوارعنا وكل شيء عندنا ، فعامل الوطن هنا غير عامل الوطن هناك . المهم .. تم تحرير المخالفة ، وأبلغها بأن الجلسة ستكون بتاريخ كذا .. وفي التوقيت كذا .. وفي المحكمة كذا .. وسيكون القاضي فلان .. ليس من أجل أن تذهب برشوة أو هدية جزلة إلى سعادة القاضي ، ولكن من أجل تسهيل مهمتها
ذهبت إلى الجلسة في الموعد المحدد ، ولم تغفل هذه المحاكمة قناة تلفزيونية هناك .. سألها القاضي إن كانت مذنبة .. اعترفت بأنها مذنبة بالطبع ، ولا يجوز لها ولو من باب الذوق أن تكذب رجل الأمن الذي حرر لها المخالفة ، وهذا لا يتوفر عندنا لأن الثقة مفقودة برجل الأمن وبالمواطن على حد سواء . أصدر القاضي حكمه على الملأ .. بحكم وجود قناة تلفزيونية مهمتها رصد محاكمة ابنة الرئيس ، قال لها ، أنا أعلم بأنك ابنة السيد الرئيس ، وأعلم بأنك غنية يمكن أن تدفعي ثمن المخالفة نقدا .. ولن يكون هذا ثقيلا عليك .. فلذلك ، فلن أحكم عليك بدفع الغرامة المالية ، ولن يكون الحكم بالسجن احتراما للسيد الرئيس ، لكن الحكم عليك رأيت أن لا يكون لا هذا ولا ذاك ، حكمت عليك بأسبوعين كاملين ، بساعات دوام كاملة ، تعملين خلالها مع عمال الوطن في تنظيف شوارع المدينة ، قبلت الحكم بكل ارتياح ، ولم تغفل نفس القناة التلفزيونية من متابعة الموضوع ، وفي اليوم التالي على ما أذكر عرضت علينا صورة ابنة الرئيس وهي تجوب شارعا من شوارع المدينة بلباسها البرتقالي ، ومكنستها ذات العصا الطويلة ، بحيث تتناسب مع طول ابنة الرئيس ، كانت تكنس الشارع بكل تواضع ، وهي تضحك وتبتسم للمارة
وأما نحن .. فانظري إلى شوارعنا .. في أي مكان .. وانظري إلى شبابنا واستهتارهم في قيادة السيارات ، واستهتارهم بحرمة الشارع وبمشاعر الناس ، نجدهم يسيرون بسرعات عالية في الأماكن المزدحمة وبالقرب من مدارس البنات ، ويقفون في أضيق الأماكن مغلقين الشارع كاملا بضعا من الزمن يسردون حكايات وقصص وغراميات ربما ، والسائقين الآخرين وراءهم يطلقون أبواق سياراتهم بشكل مزعج للغاية ، ومع ذلك يبدوا وكإن الأمر لا يعنيهم أبدا
وأما عن الأسعار وطريقة البيع في المحال التجارية : فهناك كل شيء منظم ، والأسعار موجودة على كل سلعة ، وليس هناك أي فرصة للاستفسار عن سعر أي شيء . والويل كل الويل والثبور للمؤسسة إذا وجد الزبون عبوة منتهية الصلاحية في المحل التجاري ، فالزبائن هناك أول ما يتحققون منه هو تاريخ الإنتاج وتاريخ الانتهاء
وكذلك هناك لا يمكن أن تترك الزجاجات أو العبوات تحت أشعة الشمس ولو لدقيقة واحدة ، بينما هنا نلاحظ أن زجاجات الماء الصحي ، وزجاجات المشروبات الخفيفة ، وعبوات بلاستيكية ، صاروا يضعون بها العصائر والمشروبات في رمضان ، مثل التمر الهندي ، والعرق سوس في العراء وتحت أشعة الشمس المباشرة ، وهذا شيء ليس صحي أبدا ، وقد حذرت من هذا الخطأ ، ولكن لا حياة لمن تنادي
هناك .. من المستحيل أن تجد مأكولات مكشوفة مثل الحلويات والساندويتشات ، كما عندنا هنا في مجمع عجلون ، في غياب بلديتنا الموقرة غيابا تاما ، وفي مجمع اربد مثلا ، تجدين الهش والنش في المجمع الجنوبي ، وتيارات من الهواء تحمل كل أشكال القاذورات وتذهب بها على شكل حلقات دائرية (زوابع) ولا تميز بأن هناك أكل مكشوف ، أو ساندويتشات من كبدة الدجاج ذات الروائح التي تزكم الأنوف أو الفلافل المصنوعة من خليط لا تعرفين أوله من آخره ، والمستغرب بالأمر بأن الكثير يأكل ولا يأبه أبدا بأي نداء تحذيري من شأنه توعية المواطن بمخاطر هذه المسائل ، والبلدية والرقابة الصحية كما أسلفت سواء هنا أو هناك ، كانوا قد احتصلوا على إجازة دائمة ، والرواتب بطبيعة الحال إن لم يأتوا إليها فسوف تأتي إليهم في عقر دارهم ، وهم أصلا مع الحكومة التي يئست من المناداة بتحديد النسل ، والناس ما زالت تتباهى بأن يكون لدى العائلة الواحدة عشرين أو ثلاثين وانشاء الله أربعين ، وفي هذا الخضم من الإهمال ، (خلي الدرعا ترعى) كما يقول المثل البسيط
قالت : أراك تتدخل في كل شيء . قلت .. وهل هناك إنسان يرى كل هذه الأخطاء لا يتدخل في سبيل الحق ، ومن أجل مصلحة المواطن إلا معدوم الضمير؟
قالت أنت .. وكأنك تنصب من نفسك مسئولا عن كل شيء ، قلت : المسئولية يجب أن يضطلع بها الجميع ، وحينما أرى أي شيء خطأ ، فعلي أن أحتج وبكل قوة ، قلتُ لك إن لديَّ ضميرٌ لم يمتْ بعدُ ، وإذا افتقدتني يوما ، فاسألي عني .. فربما أكون قد خلدت إلى الموت . وهكذا ودعتني بعد أن قطعت أنفاسي بالأسئلة ،والحمد لله أنها وعدت بأن لا تعود لمحاورتي مرة أخرى